السبت، 29 أكتوبر 2011




هذا ماقلته لنفسي وأنا اقرأ:
هل نزلت هذه الروائية من السماء أم نبتت من الأرض ! ربما تحمل من إسمها نصيب، كمريم البتول التي كان لها من العجائب والمعجزات ما لا يملكه غيرها !!

كيف تكون الرواية الأولى للكاتبة وهي رواية كاملة من جميع النواحي! اللغة، التسلسل، الإيقاع، التصوير، الوصف، المقارنة، الخلق .. كل شيء كامل .. ووجدت الجواب في مقابلة مع الكاتبة .. تقول:(مما أذكره) لم أكن أفكر في كتابة رواية لكن كنت مولعة بالوصف وكنت أمسك قلمي وأصف ما يعجبني خاصة مآتم العزاء العراقية التي كانت تدهشني. هذا هو الجواب .. إنها كاتبة تملك الدهشة، والدهشة مفتاح الروائي البارع

كم بدت السماء قريبة عنوان شاعري يوحي بشاعرية اللغة وهذا ماجعلني أتخوف من قرائتها، كنت مترددة خاصة انها رواية الكاتبة الأولى وشعرت أنها في النهاية ستكون من ضمن تلك الروايات التي نخرج منها بالجملة المبتورة لغتها رائعة و..
لكن شكراً للقدر الذي ساقني لقرائتها في الوقت المناسب، فمنذ خمسة أشهر لم اقرأ ولا رواية واحدة، ويالها من عودة لهذا العالم الفنتازي عبر رواية واقعية لكنها الواقعية السحرية كما الأدب اللاتيني تماماً.


زمن الرواية ثلاثين سنة من عمر الراوي وهي طفلة ثم صبية ثم شابة مع ذلك لا تجد في الرواية تشنج أو تعصب أو حدة في المشاعر من حب وكره . يمضي خط الرواية بنضج وبصيرة من البداية إلى النهاية .. تدور أحداث الرواية كلها على لسان الراوية -عدا الرسائل- مع ذلك لا تشعر بأنك تقرأ بعين شخص واحد، نعم أقول عين ولا أقول تسمع بلسان شخص واحد لأنها رواية تصويرية، فأنت لا تشعر بأنك تقرأ لشخص يتحدث بل تدور الصور أمامك بمهارة تصويرية فائقة جداً وكأنك تشاهد صوراً فوتوغرافية لمحترف اقتنص التفاصيل الصغيرة بمهارة وإبداع .. إنها تفاصيل نعرفها ومواضيع قرأنا عنها - فتصادم الحضارات (الشرق والغرب) والحياة العراقية بين الريف وبغداد والحرب العراقية الإيرانية ثم الخليجية إنهيار الأسرة ثم موت الأم البطيء - كلها مواضيع مألوفة لكن وكما الشعر تلتقطها بتول وتحِيكها لنا من جديد بلغة شعرية بديعة أخذت من الشعر كل أوصافه عد الإيجاز فعلى العكس من ذلك أسهبت الروائية في الوصف لكنه وصف سريع الإيقاع وكأنها ترغب أن تودعه الورق قبل أن يفلت منها أو وكأن هذه الصور امتلأت في قلبها وعقلها ووجب البحث عن مكان آخر للتخزين وأرجح الأخير لأني أشعر بالروائية وقد تشربت بكل ما تكتبه من لغة ومشاعر وحس عالي بالمكان وذخيرة لغوية مبهرة حتى من الناحية الشعبية .. إنك تقرأ الرواية وتظنها سيرة ذاتية للروائية نفسها لكنها أكدت في لقاء معها أن هناك وجه شبه بسيط جداً والباقي كله من خيال بحت فتقول مثلاً : "صحيح عشت في طفولتي في الزعفرانية لكن وصف الطبيعة والمشمش والصديقة خدوجه كله من وحي خيالي"
ايضاً ما يؤكد حِرفية الكاتبة وبعدها عن شخصها هو أنه مع حساسية الموضوع لا نجد صدى لرأيها الشخصي سواء في موضوع الحرب أو موضوع تصادم الحضارات الذي عاشته شخصياً، فلم تلجأ الكاتبة لتزكية طرف على حساب آخر ولا لتفضيل حضارة على أخرى، بل نجد الحيادية البارعة في الوصف، فأنت تستطيع الشفقة مع الأم ومع الأب في آن معاً، تميل مرة مع الأم، ثم حين يأتي الأب يشكي تميل معه وتشفق عليه، إنها مذهلة ومتزنة خاصة لو أخذنا في الحسبان عمق تأثير الوالدين على الطفل الوضع الذي عاشته بتفاصيله كما قلت.

ومن تصادم الحضارات حاولت الكاتبة معالجة أو طرح كيف تتعايش الطفلة ذات الأب الشرقي الحار والأم الإنكليزية الباردة هذا الإختلاف الشاسع الذي يفترض أن يكون العكس في أية عائلة أخرى حيث الأم الشرقية الدافئة.
ومنه عالجت او طرحت قضية الغربة والإنتماء، فإلى من تنتمي الفتاة في النهاية ! ونلاحظ كيف كانت مولعة في طفولتها بالمزرعة والتفاصيل الشرقية .. وايضاً الأم التي تركت ورائها عالمهاوقدمت مع الزوج .. وكيف وجدت نفسها في النهاية في وضع مشفق وحزين فلا هي انتمت لوطنها ولا هي استطاعت الإنتماء للشرق فمن فرط الإحساس بالغربة لم تعد تشعر بأي شيء حتى بموطنها الذي عادت له بعد غياب طويل وقالت تلخص ذلك في جملة بديعة: "إنها فكرة بلهاء، قضية الانتماء، فنحن لا تنمي إلا لظل أجسادنا التي ترافقنا، ما دمنا أحياء"

جاء موضوع الحرب فجأة وبشكل غير متوقع للقارئ وتسائلت هل اخطأت الروائية هنا وهو ما أستبعده لأننا قرأنا من قبل كيف ربطت عدة مواضيع مع بعض بمهارة وتسلسل، وربما أرادت الكاتبة أن توضح كيف جاءت الحرب فجأة بلا سابق إنذار على العراقيين أو على الشخصية ذاتها التي كانت غارقة في الحزن على صديقتها خدوجة ومشغولة التفكير ايضاً بالنزاعات العائلية بين الوالدين بدون أن ننسى أنها الطفلة الوحيدة لأبويها وهو مايعني تعلقها الشديد بهما معاً

مما أحببته في الرواية أسلوب الخلق والهدم، فالحرب والمرض والموت هما أدوات هدم يعايشها المجتمع ويقابلها الخلق المتمثل في الفن، بالرقص أولاً حيث لاحظنا كيف كانوا يحاولون تحت وطأة الحرب خلق فرص جديدة للمستقبل ثم في النحت والنحّات الذي هدم منحوتاته في النهاية تحت صراع الموت والحياة والهدف

 يقول الجاحظ "والمعاني مطروحة في الطريق ويعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماس، وفي صحة الطبع وجودة السبك ، فإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير."
إن الجاحظ هنا لا يعطي للشكل أهمية اكثر من المعنى بل يلخص بكل بساطة ما فعلته الكاتبة في هذه الرواية من التقاطها لمعاني وموضوعات مطروحة أمامنا لكن بعين جديدة ورؤى أخرى متزنة وناضجة تحمل فكراً ومبادئ.



كم بدت السماء قريبة
بتول الخضيري
200 صفحة
المؤسسة العربية للدراسات والنشر 


0 التعليقات:

:)) ;)) :D ;) :p :(( :) :( :-o :-/ :| :-t b-( :-L x( =))

إرسال تعليق