السبت، 30 أكتوبر 2010

أنشودة المطر, بدر السياب "أسطورتي الشخصية"




Cliffs at Pourville Rain 1896


لقد تخطى السياب حدود نفسه, وحدود الإبداع, بقصيدته "أنشودة المطر". هذه القصيدة استفزتني للكتابة عنها هنا, رغم أني لم أخطط لذلك, إنها طفلتي المدللة, أغنيتي المفضلة, إنها القصيدة الأسطورة التي لا تمل قرائتها ! مالذي سأكتبه هنا ؟ ليس سوى قراءة ونظرة شخصية لا مقننة لقصيدة أحفظ طرقاتها, وعدد نوافذها, وألوان طقسها .  

حينما تقرأ للسياب لا تستطيع التوقف حتى تصل لآخر القصيدة, فالسطور تتوالي بسرعة وإنسيابية عجيبة,كأنها تتدحرج من أعلى التل إلى حيث المرتع الخصب, كأنها شلال ماء ينساب بنعومة من أعلى أحد الجبال, وحين تقرأ للسياب تتدحرج معه لزاماً إلى قاع الأسى والألم, تشعر بروحك تتصل مع روحه, تهز رأسك بلا شعور وكأنك تقول "أوافقك" , وتنساب روحك من بين ضلوعك الضيقة إلى عالم فسيح فسيح لا حدود لألمه أو أمله . 



عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .


أنشودة المطر, ساحرتي, أسطورتي, منبع حزني, ومرة أخرى أقول لقد تفوق فيها السياب على نفسه , بدأها كمعلقة جاهلية بمقدمة طللية, كقصيدة أصلية, بدأها بتشبيه متفرد, وساحر جداً , فتنني تشبيه عيني حبيبته بالشرفتان التي بدأ القمر ينأى ويختفي تدريجياً وهي تغوص في الظلام ! عرفنا من الشطر الأول أن العينان سوداوان تماماً (عيناك غابتا نخيل ساعة السحر) ففي السحر يسود المكان ظلام تام, ثم بعد ذلك حين قال (أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر) نجد الصورة متحركة , فالشرفتان كانت مضاءة بنور القمر, ثم يأخذ القمر بالزوال تدريجياً تاركاً للظلمة أن تعم المكان مرة أخرى, وكأنها صورة لعينين غامضتين تشع أحياناً بضوء القمر لكنهما ما تلبثا أن تعودا غير مقروئتان, متوشحتان بغموض محبب مستفز للمحبوب, إنها صورة متحركة بديعة تفرد بها السياب عن غيره من الشعراء, فماذا كنت ستقول لو سمعت أحداً يشبه عيني حبيبته بالشرفه ؟ 




مطر ..
مطر ..
أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟
بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،
كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر !




 يتلخص حزن العالم في هذه السطور , تتجسد الوحدة (وحدة الروح) كما لم تكن من قبل, كأنها ماثلة أمام عينيك رغم أنه لم يستخدم سوى صيغة سؤال بسيطة, لكنها العبقرية ! إن العباقرة وحدهم هم الذين يستخدمون أبسط الأشياء ويرونها بشكل مختلف, لقد كان بإمكان السياب إستخدام صيغ كثيرة أخرى غير صغية السؤال, لكنه يعلم أن السؤال أكثر إيلاماً, وأكثر وجعاً, فالأسئلة مرتبطة كثيراً بالمظلومين والحيارى, الأسئلة تجرعك غصة لا تفعلها صيغ أخرى, لأن تحتاج دوماً إلى جواب, والجواب كثيراً ما يكون مفقود ! 


Gardens in the Rain



يقول السياب "مطر .. مطر .. " مرتان فقط لا ثلاثة كما في المرة السابقة, وكأنه كان يغني ثم توقف فجأة ليبوح, وجاء بوحه على شكل اسئلة تحمل جوابها بين طياتها, تحمل حزناً مخبأ ً, ودموعاً متوارية ! وتحمل حكاية ما ! تقرأ السطور القليلة هذه, فتتركب في خيالك صور متعددة, مطر يهطل بغزارة, يتجمع الناس و يبتهلون, وآخرون يهربون, وهناك أطفال تغشتهم فرحة عامرة, ثم في ركن قصي, رجل  يفترش الأرض, أو يقف على عمود إنارة, رافعاً وجهه للسماء, وباسطاً يديه لتستقبل المطر, وكأنه لم يشعر بإبتهال أو هروب من حوله, وكأنه لا يعنيه أمرهم, لكنه في لحقيقة يبكي, تتساقط دموعه وكأنها المطر ذاته, لأنه في هذه اللحظة فقط أدرك مدى وحدته, أدرك أن هائم على وجهه, وأدرك أن المطر لا يخفى عليه حزنه المخبأ في أعماقه, واجتاحت مياهه تربة قلبه, وسالت أودية بقدرها, وعام على السطح كل ما كان مدفوناً تحت التراب, وبكى الرجل كما لم يبكي من قبل ! 


* لم أتعمد اختيار المقطعين, القصيدة كلها أسطورة لغوية, ولا مانع لدي من الإ سهاب في الحديث عنها, لكن لئلا أطيل قررت أن هذا يكفي لتدوينة واحدة, والقراءات عن القصيدة كثيرة جداً جداً, والحديث عنها بالتفصيل طال الأولين والمعاصرين, و أصل التدونية أني قمت فجأة من مكاني لأبحث عن لوحة مطرية تناسب القصيدة, توقعت أن أجد لوحة عنها لأحد الرسامين العرب, لكن لم أجد شيئاً, وبحثت عن لوحة تحمل ذات الغموض, والحزن, والأمل في النهاية, وجدت الوحة المناسبة بالصدفة, وتفاجئت حين علمت أنها لرسامي المفضل  Claude Monet - عنوان اللوحة هو : Cliffs at Pourville Rain كما تجدونها في أول التدوينة, بعد ذلك أحببت مشاركتها معكم هنا . 



0 التعليقات:

:)) ;)) :D ;) :p :(( :) :( :-o :-/ :| :-t b-( :-L x( =))

إرسال تعليق